فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

{والضحى (1)}
وفي المراد بـ: {الضحى} أربعة أقوال.
أحدها: ضوء النهار، قاله مجاهد.
والثاني: صدر النهار، قاله قتادة.
والثالث: أول ساعة من النهار إذا ترحّلت الشمس، قاله السدي، ومقاتل.
والرابع: النهار كلُّه، قاله الفراء.
وفي معنى {سجى} خمسة أقوال.
أحدها: أظلم.
والثاني: ذهب، رويا عن ابن عباس.
والثالث: أقبل، قاله سعيد بن جبير.
والرابع: سكن، قاله عطاء، وعكرمة، وابن زيد.
فعلى هذا: في معنى (سكن) قولان.
أحدهما: استقر ظلامه.
قال الفراء: {سجى} بمعنى أظلم وركد في طوله.
كما يقال: بَحْرٌ سَاجٍ: ولَيْل سَاجٍ: إذا ركد وأظلم.
ومعنى: ركد: سكن.
قال أبو عبيدة، يقال: ليلة ساجية، وساكنة، وشاكرة.
قال الحادي:
يَا حَبَّذا القَمْرَاءُ والليل الساجْ ** وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النِّساجْ

قال ابن قتيبة: {سجى} بمعنى سكن، وذلك عند تناهي ظلامه وركوده.
والثاني: سكن الخلق فيه، ذكره الماوردي.
والخامس: امتد ظلامه، قاله ابن الأعرابي.
قوله تعالى: {ما وَدَّعك ربك} وقرأ عمر بن الخطاب، وأنس، وعروة، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، وأبو حاتم عن يعقوب {مَا وَدَعَكَ} بتخفيف الدال.
وهذا جواب القسم.
قال أبو عبيدة: {ما وَدَّعك} من التوديع كما يودع المفارق، و{مَا وَدَعَكَ} مخففة من ودعه يدعه {وما قلى} أي: أبغض.
قوله تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى} قال عطاء، خير لك من الدنيا.
وقال غيره: الذي لك في الآخرة أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا.
قوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك} في الآخرة من الخير {فترضى} بما تُعطَى.
قال علي والحسن: هو الشفاعة في أمته حتى يرضى.
قال ابن عباس: عُرِض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يُفْتَح على أُمته من بعده كَفْرَاً كَفْرَاً، فَسُر بذلك، فأنزل الله عز وجل: {وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى}.
قوله تعالى: {ألم يجدك يتيماً فآوى} فيه قولان.
أحدهما: جعل لك مأوى، إذا ضَمَّك إلى عمك أبي طالب، فكفاك المؤونة، قاله مقاتل.
والثاني: جعل لك مأوى لنفسك أغناك عن كفالة أبي طالب، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: {ووجدك ضالا فهدى} فيه ستة أقوال.
أحدها: ضالا عن معالم النبوة، وأحكام الشريعة، فهداك إليها، قاله الجمهور، منهم الحسن، والضحاك.
والثاني: أنه ضَلَّ وهو صبي صغير في شعاب مكة، فردَّه الله إلى جده عبد المطلب، رواه أبو الضحى عن ابن عباس.
والثالث: أنه لما خرج مع ميسرة غلام خديجة أخذ إبليس بزمام ناقته، فعدل به عن الطريق، فجاء جبريل، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة، ورده إلى القافلة، فمنَّ الله عليه بذلك، قاله سعيد بن المسيب.
والرابع: أن المعنى: ووجدك في قوم ضُلاَّل، فهداك للتوحيد والنبوة، قاله ابن السائب.
والخامس: ووجدك نِسْيَاً، فهداك إلى الذِّكْر.
ومثله: {أن تَضِلَّ أحداهما فتذكَّر أحداهما الأخرى} [البقرة: 282]، قاله ثعلب.
والسادس: ووجدك خاملاً لا تُذْكَر ولا تُعْرَف، فهدى الناس إليك حتى عرفوك، قاله عبد العزيز بن يحيى، ومحمد بن علي الترمذي.
قوله تعالى: {ووجدك عائلا} قال أبو عبيدة: أي: ذا فقر.
وأنشد:
وَمَا يَدْري الفقيرُ مَتى غِنَاهُ ** وما يَدْرِي الغَنِيُّ مَتى يَعِيلُ

أي: يفتقر.
قال ابن قتيبة: العائل: الفقير، كان له عيال، أو لم يكن.
يقال: عال الرجل، إذا افتقر.
وأعال: إذا كثر عياله.
قوله تعالى: {فأغنى} قولان.
أحدهما: رَضَّاك بما أعطاك من الرزق، قاله ابن السائب، واختاره الفراء.
وقال: لم يكن غناه عن كثرة المال، ولكن الله رضَّاه بما آتاه.
والثاني: فأغناك بمال خديجة عن أبي طالب، قاله جماعة من المفسرين.
قوله تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر} فيه قولان.
أحدهما: لا تحقر، قاله مجاهد.
والثاني: لا تقهره على ماله، قاله الزجاج {وأما السائل} ففيه قولان.
أحدهما: سائل البِر، قاله الجمهور.
والمعنى: إذا جاءك السائل، فإما أن تعطيه، وإِما أن تردَّه ردَّاً ليناً.
ومعنى {فلا تنهر} لا تنهره، يقال: نهره وانتهره: إذا استقبله بكلام يزجره.
والثاني: أنه طالب العلم، قاله يحيى بن آدم في آخرين.
قوله تعالى: {وأما بنعمة رَبِّك فحدث} في النعمة ثلاثة أقوال.
أحدها: النُبُوَّة.
والثاني: القرآن، رويا عن مجاهد.
والثالث: أنها عامة في جميع الخيرات، وهذا قول مقاتل.
وقد روي عن مجاهد قال: قرأت على ابن عباس.
فلما بلغت {والضحى} قال: كبِّر إذا ختمت كل سورة حتى تختم.
وقد قرأتُ على أُبيِّ بن كعب فأمرني بذلك.
قال علي بن أحمد النيسابوري: ويقال: إن الأصل في ذلك أن الوحي لما فتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال المشركون: قد هجره شيطانه وَوَدَعَه، اغتمَّ لذلك، فلما نزل {والضحى} كبَّر عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً بنزول الوحي، فاتخذه الناس سُنَّةً. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {والضحى}
اختلفوا في سبب نزول هذه السّورة على ثلاثة أقوال: القول الأول (ق) عن جندب بن سفيان البجلي قال: «اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت امرأة فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك ليلتين أو ثلاثاً فأنزل الله: {والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى}».
وأخرجه الترمذي عن جندب قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار فدميت أصبعه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل أنت إلا أصبع دميت... وفي سبيل الله ما لقيت».
قال: فأبطأ عليه جبريل فقال المشركون قد ودع محمداً ربه.
{ما ودعك ربك وما قلى} وقيل إن المرأة المذكورة في الحديث المتفق عليه هي أم جميل امرأة أبي لهب.
القول.
الثاني: قال المفسرون: سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرّوح، وعن ذي القرنين، وأصحاب الكهف، فقال سأخبركم غداً، ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عليه.
القول الثالث: قال زيد بن أسلم: كان سبب احتباس الوحي، وجبريل عنه أن جروا كان في بيته، فلما نزل عليه عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبطائه فقال إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة.
واختلفوا في مدة احتباس الوحي عنه، فقيل اثنا عشر يوماً وقال ابن عباس: خمسة عشر يوماً، وقيل أربعون يوماً فلما نزل جبريل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك» فقال جبريل: إني كنت إليك أشد شوقاً، ولكني عبد مأمور.
ونزل {وما نتنزل إلا بأمر ربك} وأنزل الله هذه السّورة قوله: {والضحى} قيل أراد به النهار كله بدليل أنه قابله بالليل كله في قوله، {والليل إذا سجى} وقيل وقت الضحى وهي السّاعة التي فيها ارتفاع الشّمس واعتدال النهار في الحر والبرد في الصيف والشتاء.
{والليل إذا سجى} قال ابن عباس أقبل بظلامه وعنه إذا ذهب وقيل معناه غطى كل شيء بظلامه، وقيل معناه سكن فاستقر ظلامه فلا يزاد بعد ذلك، وهذا قسم أقسم الله تعالى بالضحى والليل إذا سجى وجواب القسم قوله تعالى: {ما ودعك ربك وما قلى} أي ما تركك ربك منذ اختارك ولا أبغضك منذ أحبك، وإنما قال قلى ولم يقل قلاك لموافقة رؤوس الآي، وقيل معناه وما قلى أحداً من أصحابك ومن هو على دينك إلى يوم القيامة.
{وللآخرة خير لك من الأولى} أي الذي أعطاك ربك في الآخرة خير لك وأعظم من الذي أعطاك في الدّنيا، وروى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدّنيا» {ولسوف يعطيك ربك فترضى} قال ابن عباس هي الشفاعة في أمته حتى يرضى.
(م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه وقال: اللّهم أمتي أمتي وبكى فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد، واسأله ما يبكيك، وهو أعلم فأتى جبريل، وسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد وقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك».
(ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ألم يجدك يتيماً} أي صغيراً {فآوى} أي ألم يعلمك الله يتيماً من الوجود الذي هو بمعنى العلم، والمعنى ألم يجدك يتيماً صغيراً حين مات أبوك، ولم يخلف لك مالاً، ولا مأوى فجعل لك مأوى تأوي إليه وضمك إلى عمك أبي طالب حتى أحسن تربيتك وكفاك المؤنة.
وذلك أن عبد الله مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل فكفله جده عبد المطلب، فلما مات عبد المطلب، كفله عمه أبو طالب إلى أن قوي، واشتد وتزوج خديجة، وقيل هو من قولهم درة يتيمة، والمعنى ألم يجدك واحدًا في قريش عديم النّظير فآواك إليه وأيدك وشرفك بنبوته واصطفاك برسالته.
{ووجدك ضالا} أي عما أنت عليه اليوم {فهدى} أي فهداك إلى توحيده ونبوته، وقيل {وجدك ضالا} عن معالم النّبوة وأحكام الشّريعة، فهداك إليها وقال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضل في شعاب مكة وهو صبي صغير، فرآه أبو جهل منصرفاً من أغنامه، فرده إلى جده عبد المطلب، وقال سعيد بن المسيب: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة فبينما هو راكب ذات ليلة مظلمة إذ جاء إبليس فأخذ بزمام ناقته، فعدل به عن الطريق فجاء جبريل عليه السّلام فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القافلة فمنّ الله عليه بذلك، وقيل وجدك ضالا نفسك لا تدري من أنت فعرفك نفسك وحالك، وقيل ووجدك بين أهل الضّلال فعصمك من ذلك وهداك إلى الإيمان وإلى إرشادهم، وقيل الضلال هنا بمعنى الحيرة وذلك لأنه كان صلى الله عليه وسلم يخلو في غار حراء في طلب ما يتوجه به إلى ربه حتى هداه الله لدينه، وقال الجنيد: ووجدك متحيراً في بيان ما أنزل الله إليك، فهداك لبيانه فهذا ما قيل في هذه الآية ولا يلتفت إلى قول من قال إنه صلى الله عليه وسلم كان قبل النّبوة على ملة قومه، فهداه الله إلى الإسلام لأن نبينا صلى الله عليه وسلم، وكذلك الأنبياء قبله منذ ولدوا نشؤوا على التّوحيد، والإيمان قبل النّبوة وبعدها، وأنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بصفات الله تعالى وتوحيده ويدل على ذلك أن قريشاً لما عابوا النبي صلى الله عليه وسلم ورموه بكل عيب سوى الشّرك وأمر الجاهلية فإنهم لم يجدوا لهم عليه سبيلاً إذ لو كان فيه لما سكتوا عنه ولنقل ذلك فبرأه الله تعالى من جميع ما قالوه فيه وعيروه به.
ويؤكد هذا ما روي في قصة بحير الرّاهب حين استحلف النبي صلى الله عليه وسلم باللاّت والعزى، وذلك حين سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام فرأى بحيرا علامة النّبوة فيه وهو صبي فاختبره بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
{فأما اليتيم فلا تقهر} أي لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيماً، وقيل لا تقهره على ماله فتذهب به لضعفه، وكذا كانت العرب في الجاهلية تفعل في أمر اليتامى يأخذون أموالهم، ويظلمونهم حقوقهم روى البغوي بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ثم قال: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ويشير بأصبعيه».
(خ) عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة، والوسطى، وفرج بينهما».
{وأما السائل فلا تنهر} يعني السائل على الباب يقول لا تزجره إذا سألك فقد كنت فقيراً فإما أن تطعمه وإما أن ترده رداً ليناً برفق ولا تكهر بوجهك في وجهه وقال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السُؤَّال يحملون زادنا إلى الآخرة وقال إبراهيم النّخعي السّائل: يريدنا إلى الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول هل توجهون إلى أهليكم بشيء وقيل السائل هو طالب العلم فيجب إكرامه وإسعافه بمطلوبه ولا يعبس في وجهه ولا ينهر ولا يلقى بمكروه {وأما بنعمة ربك فحدث} قيل أراد بالنّعمة النّبوة أي بلغ ما أرسلت به وحدث بالنبوة التي أتاك الله، وقيل النعمة هي القرآن أمره أن يقرأه ويقرئه غيره، وقيل أشكره لما ذكره نعمه عليه في هذه السّورة من جبر اليتيم والهدى بعد الضّلالة والإغناء بعد العيلة والفقر أمره أن يشكره على إنعامه عليه، والتحدث بنعمة الله تعالى شكرها.
عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أعطي عطاء فليجزه إن وجد فإن لم يجد فليثن عليه فإن من أثنى عليه فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور» أخرجه التّرمذي وله عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لا يشكر الناس لا يشكر الله» وله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطّاعم الشّاكر بمنزلة الصّائم الصّابر» وروى البغوي بإسناد الثّعلبي عن النّعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر وتركه كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب».
والسنة في قراءة أهل مكة أن يكبر من أول سورة الضّحى على رأس كل سورة حتى يختم القرآن فيقول الله أكبر وسبب ذلك أن الوحي لما احتبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المشركون: هجره شيطانه، وودعه، فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فلما نزلت {والضحى} كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً بنزول الوحي، فاتخذوه سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.